حين يصبح العطاء رسالة

حين يصبح العطاء رسالة
تجربتي في خدمة الحجاج

منذ عام، كنت أتمنى أن أكون من المساهمين في خدمة الحجاج، ودعوت في يوم عرفة أن يرزقني الله فرصة العمل في الحرم. واستُجيبت دعوتي، فكانت هذه التجربة من التجارب التي لطالما رغبت في خوضها، مثل الكثيرين ممن يسعون لخدمة ضيوف الرحمن.

في مكة، ترى الجميع يعمل بجد خلال موسم الحج ، أطفال، شباب، كبار سن ونساء. بعضهم في وظائف رسمية، وآخرين متطوعين، كلهم يسعون لجعل الموسم أكثر نجاحًا من سابقه. ومن وجهة نظري، من المهم أن يخوض الإنسان تجربة العمل في مواسم الحج والعمرة، لأنها تجربة لا تقتصر على تقديم الخدمات للحجاج فقط، بل تمنحك أجرًا عظيمًا ودعوات صادقة، إلى جانب كونها تجربة مختلفة تُضيف الكثير لشخصيتك.

عملتُ في “نسك عناية”، ضمن فرق الإرشاد والتوجيه، وهو عمل شاق إلى حد ما، حيث كانت التوجيهات تقضي بأن نبقى واقفين ونسأل الحجاج إن كانوا بحاجة للمساعدة في الوصول إلى وجهاتهم، سواء كانت فنادق، بوابات، أو دورات المياه. كانت ساعات العمل تمتد لست ساعات يوميًا، وكنت ضمن الفترة المسائية من السادسة مساءً حتى منتصف الليل. ورغم الإرهاق، إلا أنه كان عملاً سهلاً مقارنة بالفترات النهارية، إذ كانت الزحام تخف تدريجيًا بعد صلاة العشاء، مما يمنحنا الفرصة للراحة.

كنا نعمل ضمن فرق موزعة في الساحات الشرقية، الجنوبية، الغربية والشمالية، ولكل ساحة مشرف يقود فريقه. انتشرنا في أرجاء الحرم لمساعدة الحجاج، وكل واحد منا يشغل نقطة معينة ليساعد كل من يمر بها؛ المصري، التركي، الجزائري، العراقي، الهندي والنيجيري… من شتى بقاع الأرض. كانت تجربة ثرية، حيث تعلمت خلالها بعض الكلمات من لغات مختلفة، مثل الفرنسية والأوردو، وبما أنني أتقن العربية والتركية والإنجليزية، كان من السهل عليّ التواصل مع متحدثيها.

بالطبع كانت هناك تحديات عديدة خلال فترة الحج، تبدأ من لحظة مغادرتي المنزل متجهةً إلى العمل وحتى عودتي. بسبب إغلاق معظم الطرق خلال الموسم ، حيث كان الوصول إلى الحرم صعبًا، فاضطررنا إلى المشي لمسافات طويلة قبل أن نجد وسيلة نقل تُدخلنا إلى المنطقة المركزية. كما أن حرارة مكة في فترة العصر كانت شديدة، والوقوف لساعات طويلة كان مرهقًا للكثير من المرشدين، لكننا تغلبنا على ذلك بالتناوب في الجلوس.

إحدى أكبر التحديات كانت التعامل مع الحجاج الذين لا يتحدثون العربية أو الإنجليزية، إذ احتجنا في بعض الأحيان إلى مترجم ليساعدنا في التواصل. كما كان من الصعب التعامل مع كبار السن أو أولئك الذين يعانون من صعوبة في الحركة، لكننا فعلنا ما بوسعنا لمساعدتهم، وكانت رؤية امتنانهم كفيلة بأن تجعل التعب يتلاشى.

أحد المواقف التي بقيت عالقة في ذهني، حين كنت واقفة أرشد مجموعة من الحجاج، فاجأتني سيدة جزائرية تبكي بحرقة، إذ كانت قد فقدت مجموعتها ؛ أمسكت بيدي بارتجاف، وطلبت مني مساعدتها للعثور عليهم. حاولت تهدئتها وفتحت الإنترنت لأساعدها في التواصل معهم، وحين تمكنّا من تحديد موقعهم وطلبت منهم القدوم لأخذها، ظلت ممسكة يدي حتى رأتهم. شعرتُ بخوفها وارتباكها، فكونها في بلد غريب، لا تعرف أحدًا ولا تجيد لغة أخرى، جعلها تشعر بالعجز. حين عادت إلى مجموعتها، نظرت إليّ بامتنان، وكان ذلك كافيًا لأدرك أهمية ما كنا نفعله.

علمتني هذه التجربة الكثير، فقد غيّرت نظرتي للصبر، جعلتني أكثر تفهمًا وتقديرًا لحالات الناس المختلفة. تعلمت معنى العمل الجماعي، أهمية التعاون والالتزام، وكيف يمكن لمجموعة من الأشخاص أن تعمل بتناغم لخدمة هدف واحد. كانت هذه أول تجربة عمل لي، لكنها من أعمقها أثرًا. لم يكن الحافز فيها المردود المادي، بل الدعوات الصادقة والابتسامات التي نراها على وجوه الحجاج بعد أن نساعدهم.

لو أتيحت لي الفرصة، فلن أتردد لحظة واحدة في خوض هذه التجربة مجددًا. إنها تجربة تصقل شخصيتك، تعلّمك، وتترك بداخلك أثرًا لا يُمحى. أقدم شكري وامتناني لكل العاملين والمساهمين في إنجاح مواسم الحج عامًا بعد عام، من رجال الأمن، إلى المتطوعين، إلى الفرق التنظيمية التي تعمل خلف الكواليس.

وأدعو كل من لديه الرغبة في خوض تجربة العمل في الحج، ألا يتردد، حتى لو كان العمل تطوعيًا لأيام معدودة. لأن العمل في موسم الحج ليس مجرد وظيفة، بل تجربة روحانية، وإنسانية، واجتماعية لا تُشبه أي تجربة أخرى.

الكاتبة : وئام سعد الهوساوي.
تدقيق : ثناء عليان.

Share on facebook
مشاركة
Share on twitter
مشاركة
Share on linkedin
مشاركة

التعليقات :

1 فكرة عن “حين يصبح العطاء رسالة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أحدث المقالات

اشترك في النشرة البريدية

مجلة إعلامية تقدم محتوى هادف لتنمية ثقافة المجتمع وتعزيز الفنون وتبني الموهبة في بيئة تطوعية.

تواصل معنا

feslmalhdf@gmail.com

جميع الحقوق محفوظة لموقع سلم الهدف © 2020

تواصل معنا

عبق إيماني

فن