البركة الخفية

كونوا لطيفين وأكثر لينٍ بالتعامل معهم فهم مثقلون.

ماذا لو نسيت أنك كنت صاحب منصب، أو أحد أعضاء مجلس، أو فقدت قوتك ووصلت لمرحلة ضعفك، تلك هي رحلة كبير بالسن! تلك الرحلة التي حكيت مرارًا وتكرارًا على الأطفال والشبان ونساء العائلة، وكأنها تُحكى لنا للمرة الأولى بسبب عودة أميرنا المحبوب طفلًا حين أصبح في سن السبعين، يحكي عن ألمه ومعاناته، متوقفًا حين يصل لأمرٍ ما قد فعله والده الجد الأكبر وأصبح لا يعطي بسبب تلك المشكلة التي حدثت له بالصغر، ودائمًا كبار السن مدرسة مهما حكت بتجاربها السابقة تجعل منا طلابًا جدد، مع أنه قد توقف عن عمله توقفًا كامل جعله مقصور المعرفة عن العالم الخارجي إلا من أكمل طريقة ليقول للتقاعد أنت مجرد اسم أما أنا سأكون القلم الذي يكتب حتى يأتي الموت ليسلبني من أنظار الجميع ..

مرور بين ممرات الإقامة الطويلة شدّ انتباهي إحدى الممرضات بحوارها عن أحد المرضى النائم على السرير أنه قد عُنّف من رئيسة التمريض! بات استفهام ٌبداخلي لماذا ضرب؟ فإذا بصديقتي تقول لي هل رأيتِ هذه الممرضة خدمت مرضى الإقامة الطويلة ما يقارب الخامسة عشر سنة لأنها تجد عائلتها بهم، وغير ذلك هم لا يريدون إلا هي في جميع حاجاتهم من تنظيفهم وحتى مأكلهم وتنويمهم والسماع لقصصهم حتى لو كانت مكرره، بالي لم يكن مع ذلك الحوار، بل كان مع الذي عنف بمخيلتي هل أصابته كدمات أم ماذا؟ وصلنا لغرفة العم اللطيف ونقل لنا ماحدث معه، أسمع الحوار وكأني أسمع لطفلٍ يشكي مع أنه تجاوز سن الست سنوات! وأصبح سنه بين الستين والسبعين وكان سبب ضربه أنه لا يريدها أن تقلّم أظافره خوفًا منها لأنها ليست ممرضته اللطيفة، وبعد أن حُلّت المشكلة أصبحت أمر عليه لأسمع منه حكاياته الكثيرة ومخيلاته الأكثر ويخبرني بصلة أصدقائه وأبنائه التي لازالت مستمرة مع نسيانه أنه يخبرني ماذا كان منصبه بعد التقاعد تمنيت أن كانت الفترة أطول ولكن انتهت فترتي وانتقلت لمكان آخر، ومن ضمن الأمور الرائعة أنه يسأل دائمًا عن وقت (الصلاة) رغم أنه على سريره ليحكي لربه عمّا بداخله في كل سجدة ..

أن يكون والدك على قيد الحياة فهذا يعني أنك تجيد عناق الأيدي وسماع حكايتهم الدافئة ‏وأن آللامك – وخيباتك أحداث قابلة للذوبان، لا تحرجوا ⁦‪كبار‬⁩ ⁦‪السن‬⁩ ولا تختبروهم في ذاكرتهم ‏”هل تعرفني ؟ أنا من؟ أنا ابن من؟” كل ما عليك أن تسلِّم عليهم وتقول اسمك وتعرّف بنفسك، فالنسيان مؤلم وهو قد يكون جزء من رحلتهم، بعد عنائهم في الحياة ‏”إذا خانتهم الذاكرة فلا يخونك الأدب بالتحدث معهم كن لهم الجزء الباسم والمساند لهم. (خوله محمد)” كونوا العوض لهم عما فقدوه، والربيع في عمر الخريف، والعكاز فيما تبقى لهم، اجعلوهم يعيشون أيامًا سعيدة، ولياليَ مشرقة، ويختمون كتاب حياتهم بصفحات ماتعة من البر والسعادة، حتى إذا خلا منهم المكان لاتصبحوا من بعدهم نادمين.
أخيرًا، دعوات ⁦‪كبار‬⁩ ⁦‪السن‬⁩ تخرج من القلب فهي البركة الخفية، حين تجده ولايقول إلا الله يسعدك والله يوفقك وغيرها وهذه بحدّ ذاتها الجزء المهم والأسعد لك ولهم.
اللهم اجعل‬⁩ “أمي‬⁩ ⁦‪وأبي” ممن تقـُول لهم النار اعبروا فإن نوركم أطفأ ناري وتقول لهم الجنة أقبلوا فقد اشتقت قبل أن أراكم.

الكاتبة:خولة محمد