نطلب كأسًا من أوعية الآخرين
في رواية “زوربا” للكاتب نيكوس كازانتزاكيس، يُلمح إلى فكرة أريد أن أصبوا إليها وهي نوعية القراءة في العالم المشرق، رغم إيحاء الكاتب بعبثية الوجود التي تحتمل عدة أوجه. فيحاور زوربا العامي، وهو بطل الرواية، المثقف الذي استهلكت الكتب حياته. فيقول العامي للمثقف:
- “إذن فكل تلك الكتب القذرة التي تقرؤونها ماذا تنفع؟ قل لي لماذا تقرأها؟”
فيرد المثقف: - “إنها تتحدث عن حيرة الإنسان الذي لا يستطيع أن يجيب عما يسأل يا زوربا.”
ويصرّ العامي قائلاً: - “أريد أن تقول لي من أين نأتي وإلى أين نذهب؟ لابد أنك بعد هذه السنوات الطويلة التي أمضيتها وأنت تستهلك نفسك بالكتب، قد عصرت ألفين أو ثلاثة آلاف كيلو من الورق، فأي عصير أستخلصته منها؟”
لقد كان صوت العامي قلقًا جدًا إلى حد أن أنفاسي تلاحقت وأعيت. آه! كم وددت لو أستطيع إجابته.
لنحلل هذا الحوار، ونتلمس عن قرب، الدافع والغاية من قراءاتنا. هذا العامي تتمثل شخصيته في الإنسان البسيط الذي تتكون حكمته بالتجارب ومحكات الحياة، والذي يتبارى في معرفته التساؤلات الكبرى؛ بمَ وجدنا؟ وإلى أي غاية نسعى؟ في حين يتمثل المثقف في بحثه الدائب والمستمر عن الإجابات في بحر المعرفة المتلاطم، فيجد غاية الصعوبة في الإجابة عن التساؤلات البسيطة.
أغلب قراءاتنا في العصر الحديث نغترفها من وعاء الآخرين ثم نسكبها لانفسنا، ونؤسس تصوراتنا وآدابنا بل وتاريخنا منها. وهذه طامة العصر، إذ ينشأ جيلٌ من الكُتاب والقُراء لا يحللون ويفسرون ما قاله الآخرون من عالمٍ غربيٍّ مثلاً، بل يتداولونه فيما بينهم وكأنه منقول من كتاب مقدس لا محل للشك أو النقد فيه!، ولا يفرقون بين الغث والسمين.
فإنه لابد لكل عصر أن يكتب كتبه. غير ذلك فهم لا يعرفون معرفة متواضعة أو بسيطة من آدابهم وتاريخهم.
وهذه إحدى آفات الإكثار من الكتب المترجمة وهو تراكم المعرفة ليس إلا، دون فقه أو إعمال الذهن.
أن مصطلح “فقه” تعني الفهم والإدراك العميق الذي يحتمل البعد الاجتهادي والاحتمالي للنصوص، واستنباط الأحكام وتفسيرها، لا الوقوف فقط عند النصوص.
غير آفة ركاكة اللغة العربية لدى القارئ أو المطالع، “وسخيف الألفاظ مشاكلٌ لسخيف المعاني” كما قال الجاحظ التي يهضمها من تلك الكتب، وربما يكون أمتع بأكثر من إمتاع الألفاظ البليغة، والشريف الكريم من المعاني. وهذا الإهمال يستولي على قوة القريحة والبيان، ويستبد بها سوء العادة المنتشرة في حاضرنا، فيختلط الأمر.
وهم يعتقدون أنهم يجب أن يبلو بالآراء التي يعتقدون أنها عالمية، لا أنها معتقدات وثقافة في أرضٍ لها محدوديتها، ولا ينجبون عملًا وعلمًا جديدًا.
قال زكي نجيب محمود: “إن يوم اعتمادنا على غيرنا، وتتلمذنا الطويل على علم بلاد أخرى يقترب من نهايته، إن الملايين من حولنا، والتي تندفع نحو الحياة، لا تستطيع أن تعيش دائمًا على البقايا الذابلة من المحصول الأجنبي”، فلتكن كلماتنا مرآة لهويتك وديموغرافيتك أنت.
وفي قوله عز وجل: ﴿الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه﴾ [الزمر: 18]
وأيضًا لا يكون مقلدًا أو تبعيًا فيما يقرأه ويردد العبارة الرنانة “اقرأ كل شيء”، ولا يقرأ العلوم والمعارف جملة واحدة دون أساس ومنهج يبوب ويصنف عقله، ويرى ضباب الإجابات ولايصل إليها، فيتبع أحسن الحديث وأنقاه، وتكون ذو نفعٍ وقيمة حقيقية.
وفي الختام
ادلِ بكأسك واملأها بما في أرضك وناسك، حتى تتلمس احتياجات مجتمعك على الصعيد الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والفكري.
الكاتبة: رحاب الدوسري
المدققة: غدي العصيلي